ذات عشية من عشيات الصيف المقمرة
عاد الى منزله بعد ثلاثين عاما
مضى على غيابه عن زوجته التى تركها حاملاً ثلاثون عاماً غابها فى الجهاد مع الجيوش الإسلامية المتوجهة لفتح بخارى وسمرقند وما جاورهما وقد ترك لزوجته مبلغاً كبيرا من المال
وفى ذات عشية من عشيات الصيف المقمرة رجع للمدينةالمنورة بعد هذا الزمن الطويل ووصل إلى داره ووجد بابها مشقوقا
فأعجلته الفرحة عن الاستئذان على أهلها وولج من الباب وأوغل فى صحن الدار سمع صاحب الدار صرير الباب فأطل من عليته فرأى فى ضوء القمر رجلا متوشحاً سيفه متقلدا رمحه يقتحم عليه فى الليل داره
وكانت زوجته الشابة تقف غير بعيد عن مرمى بصر الرجل الغريب، فهب مغضباً ونزل إليه حافيا وهو يقول أتتستر بجنح الليل يا عدو الله، وتقتحم منزلى وتهجم على حريمى؟
شاهد: [ماذا تعرف عن دولة فرخنشيط ]
تعارك الرجلان دون ان يعرفا بعضهما
وتواثب كل من الرجلين على صاحبه وارتفع ضجيجهما وتدفق الجيران على البيت من كل صوب فأحطوا بالرجل الغريب وأعانوا جارهم عليه فأمسك به صاحب الدار وأحكم قبضته على رقبته وقال والله لا أطلقك يا عدو الله إلا عند الوالى
فقال الرجل ما أنا بعدو الله ولم أرتكب ذنبا وإنما هو بيتى وملك يمينى وجدت بابه مفتوحاً فدخلته ثم التفت إلى الناس وقال يا قوم اسمعوا منى هذا البيت بيتى شريته بمالى يا قوم أنا (فروخ) ألم يبق فى الجيران أحد يعرف فروخاً الذى غدا منذ ثلاثين عاما مجاهدا فى سبيل الله؟
وكانت والدة صاحب الدار نائمة فاستيقظت على الضجيج وأطلت من نافذة علّيتها فرأت زوجها بشحمه ولحمه فكادت تعقد الدهشة لسانها لكنها ما لبثت أن قالت دعوه، دعه يا ربيعة دعه يا ولدى إنه أبوك، انصرفوا عنه يا قوم بارك الله عليكم، حذار يا أبا عبد الرحمن إن هذا الذى تتصدى له ولدك وفلذة كبدك، فما كادت كلماتها تلامس الآذان حتى أقبل فروخ على ربيعة وجعل يضمه ويعانقه
وأقبل ربيعة على فروخ وطفق يقبل يديه وعنقه ورأسه وانفض عنهما الناس ونزلت أم ربيعة تسلم على زوجها الذى ما كانت تظن ظناً أنها ستلقاه على هذه الأرض بعد ان انقطعت أخباره مدة تقارب ثلث قرن من الزمان، جلس فروخ الى زوجته وطفق يحدثها عن احواله ويكشف لها عن اسباب انقطاع أخباره
شاهد: [ الجن يحرق منزل لرجل من الرقه]
خافت منه لانها اضاعت المال
ولكنها كانت فى شغل شاغل عن كثير مما يقول فلقد كدر عليها فرحتها بلقائه واجتماع شمله بولده خوفها من غضبه على إضاعة كل ما أودعه لديها من مال، كانت تقول فى نفسها ماذا لو سألنى الآن عن ذلك المبلغ الكبير الذى تركه أمانة عندى وأوصانى أن أنفق منه بالمعروف؟
أيقنعه قولى له إننى أنفقت ما تركه عندى على تربية ابنه وتعليمه؟ وهل تبلغ نفقة ولد ثلاثين ألف دينار؟ أيصدق أن يد ابنه أندى من السحاب وأنه لا يبقى على دينار ولا درهم وأن المدينة كلها تعلم أنه أنفق على إخوانه فى الله الآلاف المؤلفة؟
وفيما كانت أم ربيعة فى هواجسها هذه، التفت إليها زوجها وقال لقد جئتك يا أم ربيعة بأربعة آلاف دينار فأخرجى المال الذى أودعته عندك لنضم هذا إليه ونشترى بالمال كله بستانا أو عقاراً نعيش فيه ما امتدت بنا الحياة
شاهد: [ نبوءة اشعياء وسفر التكوين وحرب اسرائيل الكبرى]
عندما سالها عن المال ماذا فعلت به
فتشغالت عنه ولم تجبه بشئ، فأعاد عليها الطلب وقال هيا أين المال حتى أضم إليه ما معى؟ فقالت لقد وضعته حيث يجب أن يوضع وسأخرجه لك بعد أيام قليلة إن شاء الله، وقطع صوت المؤذن عليهما الحديث،
فهب فروخ إلى إبريقه وتوضأ ثم مضى مسرعاً نحو الباب وهو يقول أين ربيعة؟ فقالوا سبقك إلى المسجد ، فذهب فروخ إلى المسجد فأدى المكتوبة وصلى ما شاء أن يصلى ولما هم بمغادرة المسجد وجد باحته قد غُصت على رحبها بمجلس من مجالس العلم لم يشهد له نظيراً من قبل
ورأى الناس قد تحلقوا حول شيخ المجلس حلقة إثر حلقة حتى لم يتركوا فى الساحة موطئاً لقدم وأجال بصره فى الناس فإذا فيهم شيوخ معممون ورجال تدل هيئاتهم على أنهم لهم منزلة وشأن وشبان كثيرون قد جثوا على ركبهم وأخذوا أقلامهم بأيديهم وجعلوا يلتقطون ما يقوله الشيخ كما تُلتقط الدرر ويحفظونه فى دفاترهم
شاهد: [واحده من اندر الظواهر في التاريخ]
حضر الدرس في المسجد دون ان يعلم من يلقيه
وكان الناس متجهين بأبصارهم إلى حيث يجلس الشيخ منصتين إلى كل ما يلفظ من قول حتى لكأن على رؤوسهم الطير وكان المبلغون ينقلون ما يقوله الشيخ فقرة فقرة فلا يفوت أحدا شئ من كلامه مهما كان بعيدا وحاول فروخ أن يتبين صورة الشيخ فلم يُفلح لموقعه منه وبعده عنه.
لقد راعه منه بيانه المشرق وعلمه المتدفق وحافظته العجيبة وأدهشه خضوع الناس بين يديه وما هو إلا قليل حتى ختم الشيخ مجلسه ونهض واقفاً فهب الناس متجهين نحوه وتزاحموا عليه وأحاطوا به واندفعوا وراءه يودعونه إلى خارج المسجد،
وهنا التفت فروخ إلى رجل كان يجلس بجانبه وقال قل لى بربك من الشيخ؟! فقال الرجل باستغراب أو لست من اهل المدينة؟ فقال فروخ بلى فقال الرجل وهل فى المدينة رجل واحد لا يعرف الشيخ؟! فقال فروخ أعذرنى إذا كنت لا أعرفه فلقد أمضيت نحواُ من ثلاثين عاماً بعيدا عن المدينة ولم أعد إليها إلا أمس
تعجب كثيرا من كثرة الناس وتجمهرهم للسماع للعالم
فقال الرجل لا بأس اجلس إلي قليلاً لاحدثك عن الشيخ ثم قال إن الشيخ الذى استمعت إليه سيد من سادات التابعين وعلم من أعلام المسلمين وهو محدث المدينة وفقيهها وإمامها على الرغم من حداثة سنه
فقال فروخ ما شاء الله لا قوة إلا بالله فأتبع الرجل يقول وإن مجلسه يضم كما رأيت مالك بن أنس وأبا حنيفة النعمان ويحيى بن سعيد الأنصاري وسفيان الثوري وعبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي والليث بن سعد وغيرهم وغيرهم
وهو فوق ذلك كله سيد كريم الشمائل متواضع سخى اليد فما عرف أهل المدينة أحدا أوفر منه جوداً لصديق وابن صديق ولا أزهد منه فى متاع الدنيا ولا أرغب منه بما عند الله
فقال فروخ ولكنك لم تذكر لى اسمه فقال الرجل إنه ربيعة الرأى فقال فروخ ربيعة الرأى !! نعم إن اسمه ربيعة لكن علماء المدينة وشيوخها دعوه ربيعة الرأى لأنهم كانوا إذا لم يجدوا لقضية نصاً فى كتاب الله أو حديث رسول الله ﷺ لجؤوا إليه فيجتهد فى الأمر ويقيس ما لم يرد فيه نص على ما ورد فيه نص ويأتيهم بالحكم فيما أشكل عليهم على وجهٍ ترتاح إليه النفوس وتطمئن له القلوب
تفاجئ حين علم من هو العالم العارف
فقال فروخ فى لهفة ولكنك لم تنسبه لى فقال الرجل إنه ربيعة بن فروخ المكنى بأبى عبد الرحمن لقد ولد بعد أن غادر أبوه المدينة مجاهدا فى سبيل الله فتولت أمه تربيته وتنشئته ولقد سمعت الناس قبيل الصلاة يقولون إن أباه عاد
عند ذلك تحدرت من عينى فروخ دمعتان كبيرتان لم يعرف لهما الرجل سبباً، فمضى يسرع الخطى نحو بيته فلما رأته أم ربيعة والدموع تملأ عينيه قالت ما بك يا أبا ربيعة فقال ما بى إلا الخير لقد رأيت ولدنا ربيعة فى مقام من العلم والشرف والمجد ما رأيته لأحد من قبل ،
فاغتنمت أم ربيعة الفرصة وقالت أيهما أحب إليك ثلاثون ألف دينار أم هذا الذى بلغه ولدك من العلم والشرف؟ فقال بل والله هذا أحب إلي وآثر عندى من مال الدنيا كله، فقالت لقد أنفقت ما تركته عندى عليه، فهل طابت نفسك بما فعلت فقال نعم وجزيتِ عنى وعنه وعن المسلمين خير الجزاء.
📙 من كتاب صور من حياة التابعين للدكتور عبد الرحمن رافت
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اترك تعليق لتشجيعنا على الاستمرار دمتم بكل خير مع تحيات شبكة زينو ياسر محاميد