كيف الغى بنك شام كاش عمل المصرف السوري المركزي
بنك شام كاش يلغي عمل المصرف السوري المركزي
محمد علبي ✍️
لا تحتاج الدول الفاشلة إلى إعلان رسمي عن وفاتها. يكفي أن تُسلب منها وظيفة سيادية واحدة لتبدأ بالتفكك الحقيقي. أما في الحالة السورية، فالأمر تجاوز النماذج التقليدية، إذ تحوّلت البلاد بعد سقوط النظام إلى حقل تجارب نقدي شاذ، تنشط فيه ثلاث سلطات مالية، تزعم كلٌّ منها إدارة الحياة الاقتصادية، فيما الحقيقة الوحيدة هي غياب الدولة واحتضارها البطيء.
في دمشق، حيث يُفترض أن يكون «مصرف سوريا المركزي» محور السياسة النقدية، تحوّل المبنى في ساحة السبع بحرات إلى متحف بيروقراطي بلا صلاحيات فعلية، وحاكمه الصوري يعترف بعجزه أمام الساسة. السلطة الجديدة تعاملت معه كواجهة، وتم تفريغه تدريجياً من وظائفه، لا عبر إصلاح مؤسسي، بل عبر تجاوزات مباشرة، أبرزها نقل صلاحياته إلى جهة غير معترف بها قانونياً أو اقتصادياً: ما يُسمى «بنك شام».
هذا البنك، الذي بدأ كشركة صرافة تُدعى «الوسيط»، تحوّل بفعل تحالفات مصلحية في إدلب وبعض الدعم الإقليمي في 2018، إلى أداة مالية تُدار من خلف الستار، وتمارس اليوم وظائف المصرف المركزي: إدارة الحوالات، صرف الرواتب، إطلاق التطبيقات وتمويل الأنشطة. حتى إن الفلاح السوري بات يتقاضى ثمن قمحه عبر تطبيق "شام كاش" التابع له، وهو كيان بلا قانون تأسيس، ولا رقابة حكومية، ولا ميزانيات معلنة. يُلاحظ أن بعض مستخدميه يدفعون رسوماً ثابتة عند تحويل الدولار، وتشير تقديرات غير مؤكدة إلى خسارة تصل إلى 40 سنتاً لكل دولار، بسبب التزامه بمبدأ التقابض في المعاملات الإسلامية، ما يفرض تحديد أجور ثابتة لتجنّب شبهة الربا.
أما في الشمال الشرقي، فالمشهد مشابه من حيث الجوهر، وإن بدا أكثر تنظيماً وشفافية. «مكتب النقد والمدفوعات» التابع للإدارة الذاتية يمارس وظائف البنك المركزي: تنظيم الحوالات، ضبط سعر الصرف، والرقابة على الصرافين، لكنّه يعمل خارج أي منظومة وطنية، ولا يعترف به أحد خارج نطاق سلطته الجغرافية سوى بعض الدول المانحة.
هكذا، تحوّلت سوريا إلى بلد بثلاثة «مصارف مركزية»: رسمي بلا أنياب، وثانٍ غير شرعي محصّن من الرقابة والمحاسبة وتعتمده السلطة، وثالث شرقي يعمل خارج الدولة ويحاكي وظائفها. المركزي في دمشق لا يملك سوى احتكار إصدار الليرة، وهي وظيفة باتت ثانوية مع قراراته التي تحبس السيولة وتطلق تعويمات «مُدارة» غامضة. لا جهة تحدد السياسات المالية، الأسواق مُدولرة وحتى بعض معاملات الدولة، والموظفون يخسرون قوتهم الشرائية بلا رقابة أو محاسبة.
الحديث عن الاستثمار أو الاستقرار النقدي يصبح مهزلة في ظل ثلاث سلطات مالية متضاربة. كيف يمكن لرأس المال أن يثق بسوق كهذه؟ أو لمواطن أن يطمئن إلى ماله، وهو لا يعرف من يملكه، ولا بأي عملة سيتقاضاه غداً؟
الكارثة ليست في الفوضى فحسب، بل في أن مَن يُفترض أنهم يقودون البلاد نحو انتقال سياسي لا يرون في هذا الانهيار المالي أي خطر. بل يُسوَّق لبنك شام بوصفه «إنجازاً إدلبياً»، وكأن تحويل شركة صرافة إلى مصرف ظلّ هو الطريق لبناء مؤسسات دولة. وفي غياب دستور مالي ومجلس نقد موحَّد ورقابة مستقلة، ما يجري هو تفكيك ممنهج للبنية السيادية، تُديره المصالح لا القوانين.
لقد وُجد المصرف المركزي لضمان استقرار العملة وسيادة القرار المالي. أما في سوريا، فلم يعد أكثر من ديكور، بينما يُدار المال العام من مؤسسات ظلّ مشبوهة، بلا قانون، ولا رقابة، ولا خجل. والأسوأ، أن أحداً لا يواجهها، لا من داخل السلطة، ولا من خارجها.
وإذا استمر هذا النهج، فليس مستبعداً أن نصحو على مصرف رابع يُدار من كراج في حلب، أو دكان في السويداء. فالخراب حين يبدأ من القاعدة النقدية، لا يتوقف عند الاقتصاد، بل يلتهم الدولة كلّها… فساداً.
محمد علبي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اترك تعليق لتشجيعنا على الاستمرار دمتم بكل خير مع تحيات شبكة زينو ياسر محاميد