الجولاني وتقمص الأدوار هل هو نتاج نفاق أم صناعة مخابرات
هل هو نتاج نفاق أم صناعة مخابرات؟
إن تصريح أحمد الشرع المعروف بالجولاني، بأنه ليس امتدادًا "للتنظيمات الجهادية أو الإخوان أو الربيع العربي" لا يخرج من مجرد نفاق سياسي، بل هو صرخة داخلية تفضح كينونة رجل يبدو أن وجوده ذاته بُني على الخداع. هذا التنصل التام لا يعكس مجرد محاولة للتجميل، بل هو سلوك نمطي لشخصية تم تصميمها وتوظيفها، شخصية لا تملك ماضيًا حقيقيًا تلتزم به، بل مجرد أدوار تتقمصها.
هنا، لا يمكن تجاهل شهادة السفير الأمريكي السابق روبرت فورد، الذي كشف أن واشنطن كانت "تجهز" الجولاني منذ سنوات ليكون بديلاً للحكم في دمشق. هذا ليس مجرد تحليل، بل هو اعتراف خطير بأن الرجل قد يكون مشروعًا استخباراتيًا طويل الأمد. كيف يمكن لشخصية "جهادية" أن تكون قيد الإعداد في مطابخ السياسة الغربية؟ الإجابة تكمن في أن ولائه ليس للفكر الذي يدعيه، بل لمن صنعه.
والأكثر إثارة للريبة هو لغز جائزة العشرة ملايين دولار التي وضعتها أمريكا على رأسه منذ عام 2017. فطائرات التحالف وأمريكا التي لا تكاد تفارق سماء إدلب، والتي اغتالت شخصيات هامة بدقة متناهية، عجزت فجأة عن الوصول إليه لسنوات. هذا السيناريو لا يمكن تفسيره إلا بإحدى طريقتين: إما أن أجهزة المخابرات العالمية في منتهى السذاجة، أو أن الجائزة كانت مجرد غطاء لتلميعه. لقد كانت الجائزة هي وسام الشرف الذي يحتاجه ليكسب ثقة الجهاديين الحقيقيين، ليصبح "واحدًا منهم"، ثم يقوم لاحقًا بتصفيتهم أو تسليمهم لأمريكا والتحالف، وهو ما حدث بالفعل مع العديد من خصومه. لقد كانت الجائزة هي ثمن الخيانة، وليست مكافأة لمن يقبض عليه.
ولا عجب أن تلتصق به مقولة شائعة تصفه بأنه "مجهول النسب". هذه المقولة، وإن كانت تحمل طعنًا شخصيًا، إلا أنها ترمز لحقيقته السياسية. فهو شخصية بلا جذور أيديولوجية حقيقية، نشأ فجأة وبشكل غامض، وغير ولاءاته كما يغير ثيابه. إن الرجل الذي لا يُعرف له أصل، لا يُؤتمن له على مستقبل.
في النهاية، تصريح الجولاني ليس محاولة لمحو الماضي، بل هو تأكيد على أنه لم يكن يمتلك هذا الماضي يومًا. هو ليس قائدًا خرج من رحم الثورة أو الجهاد، بل هو أداة تم استخدامها ببراعة. وعندما تنتهي صلاحية الأداة، يتم التخلص منها أو إعادة تدويرها لدور جديد. وتصريحه الأخير ليس إلا إعلانًا عن بدء دوره الجديد، دور رجل الدولة المصنوع على أعين أعدائه السابقين.
محاولة لتفكيك تصريح الشرع الخطير والتنصل من التاريخ
لنفكك هذا الادعاء جزءاً جزءاً. أولاً، إن نفي الشرع كونه امتداداً "للتنظيمات الجهادية" هو الأكثر وقاحة وسخرية. فأحمد الشرع لم يكن مجرد عضو صغير في تنظيم القاعدة، بل كان أحد أبرز وجوهه في المنطقة. هو من أرسله تنظيم "دولة العراق الإسلامية" (الذي انبثق من رحم القاعدة) إلى سوريا عام 2011 لتأسيس فرع للتنظيم هناك. هذا الفرع لم يكن سوى "جبهة النصرة لأهل الشام"، التي بايعت زعيم تنظيم القاعدة أيمن الظواهري علناً وجهاراً. لسنوات، كانت راية القاعدة السوداء ترفرف فوق مقرات "النصرة"، وكانت عملياتها الانتحارية وتكتيكاتها الوحشية تحمل بصمات "الجهاد العالمي" الذي ينادي به التنظيم الأم.
إن فك الارتباط الشكلي مع القاعدة وتغيير الاسم إلى "جبهة فتح الشام" ثم "هيئة تحرير الشام" لا يغير من حقيقة الأصل والمنشأ. لقد كانت هذه التحولات خطوات براغماتية تهدف إلى الهروب من التصنيف كمنظمة إرهابية دولية، وليست نتاج مراجعة فكرية أو توبة حقيقية عن فكر الغلو والتطرف كما يدعيه البعض. فالرجل الذي بنى مجده العسكري على أكتاف القاعدة، هو نفسه الذي يدّعي اليوم أنه لا يمت لها بصلة.
ثانياً، محاولته النأي بنفسه عن "الربيع العربي" تكشف عن انتهازية سياسية بحتة. لقد كانت الثورة السورية، التي انطلقت كجزء لا يتجزأ من موجة الربيع العربي، هي الأرض الخصبة التي استغلها الشرع وجماعته لترسيخ نفوذهم. دخلت "جبهة النصرة" على خط الحراك الشعبي السلمي، وقدمت نفسها كقوة عسكرية قادرة على مواجهة بطش نظام الأسد، مستقطبة آلاف الشباب المحبطين. لقد اختطفت "النصرة" وأخواتها السردية الثورية، وحولتها من انتفاضة من أجل الحرية والكرامة إلى ساحة جهاد عالمي، وفرضت أجندتها المتطرفة على مناطق خرجت عن سيطرة النظام. الادعاء اليوم بأن لا علاقة له بالربيع العربي هو بمثابة التنصل من الجسر الذي عبر عليه للوصول إلى ما هو عليه الآن؛ هو إنكار للأم التي التهم أبناءها.
أما عن نفيه الارتباط بـ "الإخوان المسلمين"، فعلى الرغم من أن العلاقة التنظيمية المباشرة قد لا تكون قائمة، إلا أن التجاهل التام للجذور الفكرية المشتركة والمساحات الأيديولوجية المتقاطعة هو تبسيط مخل. كلاهما ينتمي إلى طيف الإسلام السياسي الذي يسعى إلى إقامة حكم ثيوقراطي، وإن اختلفت الوسائل والحدة استلهمت الحركات الجهادية الكثير من أدبيات منظرين خرجوا من عباءة الإخوان، مثل سيد قطب. كما أن "هيئة تحرير الشام" تعاونت وتصارعت مع فصائل تحمل فكراً قريباً من الإخوان في سوريا، ما يؤكد أنهم جميعاً لاعبون في نفس الملعب الأيديولوجي الواسع، يتنافسون على ذات الهدف النهائي: أسلمة الدولة والمجتمع وفق رؤيتهم.
إن تصريح أحمد الشرع ليس مجرد كذبة، بل رهان من الشرع على أن ضجيج الحاضر سيمحو جرائم الماضي، ومحاولة لتقديم نفسه كـ "رجل دولة" يمكن الوثوق به. لكن الذاكرة أقوى من الدعاية، وتاريخ الرجل مكتوب بدماء السوريين وأحلامهم التي سرقت. إن محاولة التنصل من الهوية السابقة هي اعتراف ضمني بأن وجوده بني على الخداع، لم يمتلك يومًا ماضيًا يُشرفه. بل مجرد أداة رخيصة استُعملت بدهاء، تُدار وتُساق كما يُساق أي مرتزق فاقد القرار والإرادة. وتصريحه الأخير ليس إلا إعلان تنصيبه كـ"رجل دولة" مُعلّب، صُنع على مقاس أعداء الأمس، ليُؤدي وظيفة مرسومة سلفًا لا مكان فيها لثورة ولا لجهاد.
الجولاني، الرجل الذي أتى بآخرته !
في لقاء أُجري عام 2015 ضمن برنامج "بلا حدود" على قناة الجزيرة مع الإعلامي أحمد منصور، تحدث أبو محمد الجولاني، زعيم جبهة النصرة آنذاك، عن الرئيس المصري الراحل محمد مرسي والإخوان المسلمين.
أعرب الجولاني عن انتقاده الشديد للإخوان المسلمين، معتبرًا أنهم انحرفوا عن منهج الإسلام الصحيح باتباعهم للنهج السلمي في مواجهة القمع، واصفًا هذا النهج بأنه "أتى بآخرتهم". وأشار إلى أن الولايات المتحدة هي من انقلبت على مرسي، وأن عبد الفتاح السيسي كان مجرد أداة في هذا الانقلاب.
كما انتقد الجولاني موقف مرسي من الجماعات الجهادية، مشيرًا إلى أن مرسي ضيق الخناق على المجاهدين في سيناء ولم يسعَ إلى تطبيق الشريعة الإسلامية خلال فترة حكمه.
تجدر الإشارة إلى أن هذه التصريحات جاءت في سياق نقد الجولاني للإخوان المسلمين ونهجهم السياسي...
كس اخت لجولاني ويلي بأيدو
ردحذف